[ad_1]
امتلكت الصين منذ نهاية سبعينيات القرن
الماضي رؤية شديدة الوضوح لسياستها الخارجية تعكس قدراً كبيراً من
الثقة بالنفس والاطمئنان إلى أهمية ما تمتلكه من قدرات ذاتية تتيح لها
تحقيق أهدافها بالوسائل السلمية دونما حاجة إلى استخدام القوة، وهي
تدرك أهمية ثقلها الديموغرافي كدولة تشكل وحدها سدس سكان الكرة
الأرضية، كما تدرك أهمية ثقلها الاقتصادي كدولة يتسم اقتصادها
بديناميكية شديدة تؤهله ليكون “مصنع العالم” الذي يصعب الاستغناء عنه،
ومن ثم تبوؤ مركز الصدارة في النظام الاقتصادي العالمي في المستقبل
المنظور.
لذا، ترى الصين أنها ليست بحاجة ماسة
إلى اللجوء إلى استخدام الأدوات الخشنة أو إلى إبرام تحالفات عسكرية
مع طرف آخر، وخصوصاً حين تكون هذه التحالفات موجهة ضد الغير، وأن كل
ما تحتاجه لرسم سياسة خارجية صينية فعالة هو بناء قدرات سياسية
وعسكرية ذاتية تكفي لتمكينها من الدفاع عن وحدة أراضيها وحماية
مصالحها الاقتصادية والتجارية التي تتمدد باطراد في العالم
كله.
وفي الوقت نفسه، تحرص على إدارة
العلاقات مع دول العالم كافة، استناداً إلى مبدأ تبادل المنافع
والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والنأي بالنفس
بعيداً من الخلافات والصراعات السياسية بين الدول.
لذا، يمكن القول إنَّ الصين تؤمن
إيماناً حقيقياً بأن المحافظة على السلم والأمن الدوليين تعدّ أنسب
الطرق وأقصرها لتمكينها من تحقيق مصالحها العالمية على مختلف
المستويات، وأن ممارستها هذا النوع من السياسة الخارجية على مدى
العقود الخمسة الماضية مكنها من بناء علاقات متوازنة مع كل القوى
الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
وروسيا.
وقد مكنها ذلك أيضاً من أن تصبح أول
شريك تجاري لكل دول العالم تقريباً، وجنَّبها في الوقت نفسه الدخول في
أي منازعات سياسية أو عسكرية حادة مع أي طرف طوال هذه المرحلة
الممتدة.
حين تنبهت الولايات المتحدة فجأة إلى
أن الصين أصبحت تشكل أهم “منافس إستراتيجي” لها على الصعيد العالمي،
وهو ما نصت عليه بصراحة ووضوح تام “إستراتيجية الأمن القومي الأميركي”
بانتظام منذ عام 2017، بدأت إدارة ترامب بشن حرب اقتصادية على الشركات
الصينية الكبرى.
بعدها، شرعت إدارة بايدن في اتخاذ
الإجراءات التي تراها ضرورية لعرقلة تقدم الصين وكبح جماح تمدد نفوذها
على الصعيد العالمي، ما فرض على الأخيرة خيارات جديدة دفعتها إلى
التقارب أكثر مع روسيا، وهو ما بدا واضحاً إبان زيارة بوتين لبكين في
4 شباط/فبراير 2022 وتوقيعهما وثيقة أطلق عليها اسم “شراكة بلا
حدود”.
وقد جاءت الحرب الأوكرانية التي اندلعت
في 26 شباط/فبراير 2022 لتكرس هذا التوجه الجديد في سياسة الصين
الخارجية. عند اندلاع هذه الحرب، لم تكتفِ الولايات بالانحياز إلى
أوكرانيا وفتح باب المساعدات أمامها بلا حدود، إنما قامت في الوقت
نفسه بالضغط على كل الدول الغربية للقيام بالمثل وفرض عقوبات شاملة
على روسيا تستهدف منعها من تحقيق أهدافها في الحرب، وأيضاً إلحاق
هزيمة إستراتيجية بها في الوقت نفسه.
وكان من الطبيعي، في سياق كهذا، أن
يصبح موقف الصين حاسماً في تحديد مسار الحرب الدائرة في الساحة
الأوكرانية، سواء من خلال تأثيره المحتمل في مصير العقوبات الاقتصادية
المفروضة على روسيا، في حال قررت الصين التعاون مع روسيا لإفشال هذه
العقوبات، أو من خلال تأثيره المحتمل في مسار العمليات العسكرية، في
حال قررت الصين التعاون مع روسيا لتعويضها عن الذخائر والآليات
العسكرية التي تفقدها في ساحة القتال.
بوسع كلّ متتبع للمواقف الصينية من
تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا أن يلحظ وجود خط ناظم لمجمل هذه
المواقف، هو الحرص على رفض الهيمنة الأحادية المنفردة على النظام
الدولي والعمل مع كل القوى الراغبة في فتح الطريق أمام نظام دولي
متعدد القطبية يعكس موازين القوى الحقيقية الراهنة على المسرح الدولي،
ولكن من دون التورط مباشرة في النزاع أو الانحياز إلى طرف ضد
الآخر.
وانطلاقاً من هذا الموقف المبدئي،
أعلنت الصين تفهمها احتياجات روسيا الأمنية ومخاوفها المبررة من توسع
الناتو شرقاً، ما يعني تحميل الناتو ضمناً مسؤولية التسبب بإشعال هذه
الأزمة، لكنها أحجمت في الوقت نفسه عن إعلان تأييدها الصريح للجوء
روسيا إلى استخدام القوة المسلحة لحل الأزمة.
وبالتالي، نأت بنفسها بعيداً من تأييد
“العملية العسكرية الروسية الخاصة” في أوكرانيا، التي تشكل من الناحية
القانونية اعتداء على دولة ذات سيادية، ما يفسر امتناع الصين عن
التصويت لمصلحة القرارات التي حاول الغرب تمريرها في الأمم المتحدة
لإدانة الموقف الروسي.
على صعيد آخر، رفضت الصين الالتزام
بالعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية
على روسيا، واستندت في موقفها هذا إلى حجتين رئيسيتين:
الأولى: رفضها المبدئي أي عقوبات
أحادية الجانب تفرض من خارج نطاق نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في
ميثاق الأمم المتحدة.
الثانية: حرصها على التصرف بشكل مستقل،
وفقاً لما تمليه عليها مصالحها الخاصة، وعدم الظهور بمظهر الدولة التي
تدور في فلك الولايات المتحدة الأميركية.
ولا جدال في أن الموقف الصيني الرافض
للعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا كان له تأثير حاسم في إفشالها
وفي تمكين روسيا من التغلب على آثارها السلبية، إذ تشير الأرقام إلى
إلى أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين ارتفع من 147 مليار
دولار عام 2021 إلى 190 مليار دولار عام 2022، أي بزيادة قدرها 43
مليار دولار خلال عام واحد، وأن روسيا أصبحت للمرة الأولى في تاريخها
أكبر مورد للغاز في السوق الصينية، كما زادت واردات الصين، سواء من
النفط الروسي الخام أو من الغاز الروسي المسيل بنسب كبيرة خلال العام
نفسه، وتراوحت بين 8 و40%.
صحيح أن الصين استفادت بدورها من
الأسعار التفضيلية المخفضة للنفط والغاز الروسيين، وأن بعض الشركات
الصينية الكبرى، مثل شركة “هواوي”، انسحبت من السوق الروسية خشية
تعرضها للعقوبات الغربية، ولكن لا يستطيع أحد إنكار أن الاعتبارات
الإستراتيجية المتعلقة بالتوازنات الدولية أدت الدور الأكثر حسماً في
تحديد المواقف الصينية تجاه الأزمة الأوكرانية.
على صعيد آخر، يلاحَظ أنّ الصين بدت
حريصة في الوقت نفسه على الظهور بمظهر الدولة الساعية للسلام العادل،
وعلى المساهمة في تحقيقه قدر المستطاع، وهو ما يفسر إقدامها في 24
شباط/فبراير الماضي على طرح مبادرة من 12 بنداً تتضمن المبادئ
الأساسية التي ينبغي أن تقوم عليها أي تسوية للأزمة
الأوكرانية.
وقد حاولت فيها أن تكون على مسافة
واحدة من مطالب الطرفين. وبينما طالبت “بضرورة احترام السيادة
والتعامل مع جميع الدول باعتبارها متساوية، وتطبيق القانون الدولي
بشكل موحد والتخلي عن المعايير المزدوجة”، وهو ما من شأنه طمأنة
أوكرانيا، طالبت في الوقت نفسه “برفض فكرة ضمان أمن دولة ما على حساب
أمن دول أخرى أو ضمان أمن إقليم ما من خلال تعزيز الكتل العسكرية
وتوسيعها”، وهو ما من شأنه طمأنة روسيا.
ويلاحَظ في الوقت نفسه أن الرئيس
الصيني شي جين بينغ حرص على أن تكون روسيا أول دولة يزورها بعد
انتخابه لولاية ثالثة، وهو أمر بالغ الدلالة. ولا شك في أنه ناقش مع
الرئيس بوتين خلال هذه الزيارة تفاصيل مبادرته لتسوية الأزمة
الأوكرانية، وذلك ضمن أمور كثيرة أخرى تتعلق أيضاً بتطورات الحرب
الدائرة في الساحة الأوكرانية وتأثيراتها المحتملة في موازين القوى في
النظام الدولي.
صحيح أنَّ الولايات المتحدة أعلنت
رفضها هذه المبادرة واعتبرتها منحازة إلى روسيا، لكن من الواضح أن
الأطراف الدولية كافة تدرك في قرارة نفسها في الوقت نفسه أن المبادرة
الصينية هي المبادرة الوحيدة المطروحة في الساحة الدولية لتسوية
الأزمة الأوكرانية، ولا يمكن لأي طرف دولي أو إقليمي آخر المساهمة في
إيجاد تسوية متوازنة لهذه الأزمة الخطرة التي تهدد بإشعال حرب نووية
حقيقية، وخصوصاً بعد قرار بريطانيا تزويد أوكرانيا بقذائف تحتوي على
اليورانيوم المنضب.
يدرك الرئيس الصيني بوضوح أن الولايات
المتحدة ما تزال تصرّ بعناد على إلحاق هزيمة إستراتيجية بروسيا، كما
يدرك بوضوح أيضاً أن نجاح الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف من
شأنه أن يلحق أفدح الأضرار بالمصالح الصينية العليا، وأن يؤدي حتماً
إلى إضعاف الصين في مواجهة خصم يسعى لاحتوائها ومحاصرتها بالأحلاف من
كل جانب والعمل على وقف تقدمها.
لذلك، يبدو أن من المنطقي جداً، ومن
المتوقع فعلاً، أن تكون الصين قد حسمت موقفها واتخذت قرارها بعدم
السماح للولايات المتحدة والغرب بإلحاق الهزيمة بروسيا مهما كان
الثمن، ويبدو أن العلاقات الصينية الروسية سوف تزداد قوة وتقارباً في
الفترة المقبلة.
صحيح أنَّ الصين ستظل حريصة على ألا
يصل هذا التقارب إلى حد الانحياز المباشر إلى روسيا أو التحالف
العسكري معها ضد أوكرانيا والغرب، لكن من المؤكد أنها ستبذل كل ما في
وسعها لتمكين روسيا من الصمود، لأن صمودها يشكل الضمانة الرئيسية لفتح
الطريق أمام نظام عالمي متعدد الأقطاب.
* المفكر المصري عضو مجلس أمناء النهضة العربية
(أرض)
** جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر
بالضرورة عن رأي “حياة
واشنطن“
[ad_2]
Source link